بدأت المقاومة - في الحقيقة - قبل بداية هذه المرحلة ؛ لأن تدفق الهجرة واتساع استيلاء الصهيونيين على الارض العربية ، و معاملة العرب بروح العداء و الشراسة و امتهان حقوقهم بصورة معوجة غير معقولة ، و توجيه الإهانات لهم دون أي مبرر كافٍ ، والمفاخرة بتلك الأفعال فوق كل ذلك - كما يقول " آحادهاعام " سنة 1891م - أدى إلى تفاقم النقمة ؛ و لذلك فإن فلاحي الخضيرة ، ملبس ( بتاح تكفا ) الذين فقدوا أراضيهم حتى تحولت إلى مستعمرات قاموا بهجوم على المستعمرات التي قامت على أرضهم ، ثم عادوا فقامو بهجوم مماثل سنة 1892م ، وقام وفد من وجهاء القدس بالاحتجاج على المتصرف رشاد باشا ؛ لانه تحيز لليهود ، وفي 24/11/1891م أرسلو أحتجاجاً إلى الصدر الأعظم بالآستانة طالبو فيه بمنع هجرة اليهود الروس إلى فلسطين ، وتحريم استملاكهم للأراضي فيها.
وكانت نقمة العرب في فلسطين واضحة ، حتى إن " آحادهاعام " الذي زار فلسطين سنة 1891م بدعوة من جمعية أحباء صهيون كتب مقالاً بعد عودته إلى اوروبا حذر فيه الصهيونيين من ثورة عربية قومية ضد مستعمراتهم.
ومع انعقاد المؤتمر الصهيوني الأول في " بال " سنة 1897م ، لم يعد موضوع الهجرة موضوع مهاجرين مشردين بلا هدف سياسي . إذ كانت أهداف مؤتمر " بال " واضحة من تشجيع الاستيطان إلى تنظيم اليهود ، ومن تعبئة المشاعر اليهودية إلى تعميق الوعي القومي .
وكان تطور الحياة السياسية في مصر ، وبروز نشاط الأحزاب و الصحافة قد ساعد على التعريف بالخطر الصهيوني ؛ ولذلك فإن عرب فلسطين وهم يسمعون بالاستعدادات لقيام المؤتمر ، كانوا يبحثون سُبُل درء الخطر . و التقى - ضمن هذا الأطار - متصرف القدس مع قنصل ألمانيا بحث " ضرورة وضع حد للخطر الصهيوني على فلسطين " ، وترأس في العام نفسه مفتي القدس محمد طاهر الحسيني هئية مكلفة من السلطة بالتدقيق في نقل الملكية ، حتى لا يتمكن المهاجرون الصهيونيون من الحصول على أراضٍ جديدة.
ونستطيع أن نقسم هذه المرحلة إلى فترتين : الأولى من عام 1897م حتى عام 1907 ، والثانية من عام 1907م حتى عام 1917م.
الفترة الأولى ( 1897م - 1907م)
بدأ الرد العربي في فلسطين و الوطن العربي سنة 1898م ، ففي هذا العام وقف " أهل فلسطين موقفاً حازماً ضد المشاريع الصهيونية و الهجرة اليهودية ، وإمكان قيام ( اسرائيل ) في بلادهم ؛ لأنهم اعتبروهم ذلك خطراً على حقوقهم و أمتيازاتهم . وقام عرب شرق الاردن في هذا الوقت بالقضاء على المستعمرة الوحيدة التي أسست في منطقة جرش.
ولم تلبث سنة 1900م أن شهدت حملة عرائض واسعة النطاق ضد بيع الأراضي للمهاجرين الصهيونيين ، و أرتفع صوت نجيب عازوري سنة 1905م ، محذراً من الخطر الصهيوني ، وكان نجيب موظفاً في القدس ( 1898م- 1904م) ، و لكنه استقال لان المتصرف المعين " رشيد بك " لم ينفذ قوانين الباب العالي المتعلقة بالهجرة ، قال نجيب عازوري في كتابه " يقظة الأمة العربية " هناك حادثان هامان من طبيعة واحدة ، و لكنهما متناقضان ، و هما يقظة الأمة العربية ، و الجهد اليهودي الخفي لإنشاء ملك إسرائيل القديم من جديد ، وعلى مقياس أوسع . إن مصير هاتين الحركتين هو الصراع المستمر إلى أن تغلب إحداهما الأخرى ، ومصير العالم كله منوط بالنتيجة النهائية لهذا الصراع بين الشعبين اللذين يمثلان مبدأين متعارضين.
الفترة الثانية ( المؤتمر الصهيوني 1907م)
تبدأ بالقرار الذي أتخذه المؤتمر الصهيوني سنة 1907م بمباشرة " النشاط الاستعماري العملي في فلسطين على أوسع نطاق " . وأعلن ماكس نوردو المؤتمر : " نحن ننوي الذهاب إلى فلسطين بمثابة الحملة المعتمدين للمدينة و التحضر ، ورسالتنا هي توسيع الحدود الأخلاقية ( الأدبية ) لأوروبا حتى تصل إلى الفرات " ، ثم أضاف نوردو أن " فلسطين تحوي كثافة سكانية ضئيلة ؛ مما يؤهلها لاستيعاب الملايين من المستوطنين المتحمسين للعمل " ، والذين " لا يمكنهم الانتعاش إلا هناك دون سائر الأمكنة".
وأنشئ سنة 1908م مكتب فلسطين في يافا ، وكانت مهمته شراء الاراضي في فلسطين ، وفي هذا العام نفسه بوشر بناء الاحياء اليهودية قرب يافا ، و هي التي اصبحت ( تل ابيب ) فيما بعد.
وأنشأت الحركة الصهيونية مؤسسات أخرى كشركة " انكلو ليفانتين " المصرفية في الآستانة ، وشركة تطوير الاراضي الفلسطينية والصندوق الثقافي اليهودي.... إلخ.
أشكال المقاومة في المرحلة الأولى (1897م -1917م)
أتخذت المقاومة في هذه المرحلة ثلاثة أشكال :
الأول : خط التعبئة الصحفية والثقافية:
وقد لعبت هنا الصحف و رجال الفكر و الثقافة دوراً اساسياً ، وجاء الرد على المؤتمر الصهيوني من الشيخ محمد رشيد رضا ( 1865 - 1935 ) في القاهرة ، وعلى صفحات المنار ، وتابعت ذلك الصحف العربية الأخرى .
وزاد اهتمام الصحافة بالأمر مع اتضاح الأهداف الصهيونية ، ومع قيام الحركة الدستورية سنة 1908م ؛ إذ ظهرت في العهد الجديد صحف جديدة ، في دمشق و بيروت و القدس ويافا ، وكان الجديد في الأمر ظهور عدة صحف في فلسطين . فقد صدرت صحيفة " الكرمل " عام 1908م في حيفا لصاحبها نجيب نصار ، و اعتبرت كشف مخاطر الصهيونية هدفها الرئيسي ، و قامت صحيفة " الأصمعي " بدور مماثل ، وما لبثت أن صدرت صحيفتنا " فلسطين " 1911م و " المنادي " لتسهما في تبيان مخاطر الصهيونية.
وقد لعبت " الكرمل " دوراً طليعياً ، فدعت إلى " عقد المؤتمرات للبحث عن الطرق المؤدية لتنظيم خيئتكم الاجتماعية ، وحفظ كيانكم ، و إلا صرتم حكاية تاريخية بعد حين " ، و انتقدت المؤتمر العربي الأول ؛ لأنه لم يعالج مسألة الصهيونية ، وقد قامت صحيفة " فلسطين " بنقد مماثل ، كما قامت الصحف العربية بحملات مماثلة ، وكانت تشدد على ضرورة التنبيه على الخطر الصيهوني ، وصاحب ضلك نشاط ثقافي منذر و محذر ، كان للشعر دور فيه ، و قد لعبت الصحافة والثقافة هنا دوراً مشهودا.
الثاني : خط العمل السياسي و النضالي :
ويتوزع هذا الخط على الميادين الاتية :
- مطالبة الدولة العثمانية باتخاذ الإجراءات اللازمة لمنع المهاجرين الصهيونيين من التوطن والتملك ، وكانت اتصالات القيادة الصهيونية بالدولة العثمانية - و خاصة بعد الحركة الدستورية - تثير مخاوف العرب ؛ ولذلك أخذت برقيات الاحتجاج و التنبيه تتوالي على عاصمة السلطنة منذ 1900م . وجاء في مضبطة نشرتها " الكرمل " يوم 04/07/1913م وقعتها غزة والقدس ويافا احتجاجاً على ما نشرته الصحف من عزم الحكومة على إعطاء 800 دونم لشركة الأصفر : " كتاب مفتوح إلى أمير المؤمنين و سلطان العثمانيين والصدر الأعظم وناظر الداخلية .. فتغلغل الشركات الصهيونية داخل هذه البلاد طولاً وعرضاً ، لا تقل نتيجتها في المستقبل عن حرب البلقان".
- إنشاء الجمعيات والأحزاب لتعبئة الشعب ضد المخاطر الصهيونية ، ولبناء الحياة السياسية و الأقتصادية بما بكفل القدرة على المقاومة ، فأنشئت سنة 1909م " منظمة محلية مهمتها الحيلولة دون بيع الاراضي لليهود ، وقامت سنة 1913م جمعية مكافحة الصهيونية في نابلس ، وتأسست سنة 1914م الجمعيات التالية في القدس : " المعية الخيرية الاسلامية ، و جمعية الإخاء والعفاف ، و شركة الاقتصاد الفلسطيني - العربي ، وشركة التجارة الوطنية الاقتصادية " وكان الهدف هذه المؤسسات الوقوف في وجه الأخطار الوشيكة التي تهدد أرض الوطن وأنقاذ البلاد.
ونشأت مثل هذه الجمعيات في مدن فلسطين الأخرى ، كما نشأت في بيروت و القاهرة و الآستانة ، وكان هدف جمعية مكافحة الصهيونية ما يلي :-
أ-معارضة الصهيونيين بكل الوسائل ، سواء بإيقاظ الرأي العام و توحيد وجهات النظر حول هذه النقطة ، ونشر برنامج الجمعية بين كل أوساط الأمة العربية عامة وفي سوريا وفلسطين خاصة
ب-تأسيس فروع و جمعيات في كل مدن سوريا و فلسطين من أجل هذا الغرض وحده.
ج-السعى لنشر الوحدة بين كل العناصر التي تتكون منها الأمة العربية.
د- تقديم مساعدات في الشؤون الاقتصادية و التجارية و الزراعية ، وتطوير المزارعين و الفلاحين من أجل أن يكونوا قادرين على إنقاذ انفسهم من أيدي الصهيونيين.
هـ- إرسال ممثلين إلى كل ذوي علاقة في هذه المسألة لوقف جدول الهجرة الصهيونية.
وإذا كان هذا هو البرنامج الرسمي للجمعية فإن " الإرهاب ضد المستوطنين اليهود في فلسطين جرى التفكير به في السر.
ولما كان خلق وعي قومي مطلوباً عن طريق نشر العلم والثقافة ، فقد أنشئ معهدان ، هما : معهد الدستورية ، و معهد الروضة.
3. خوض المعركة ضد الصهيونية : وذلك عبر مجلس " المبعوثان " وقد اعتبر النواب المنتخبون عن مدن فلسطين هذا برنامجهم كما يظهر من محاضر مجلس " المبعوثان " . ويبرز هنا
اسماء روحي الخالدي ، و سعيد الحسيني وكان النواب يخضون المعركة الانتخابية على هذا الاساس . وأسهم في ذلك نواب عرب آخرون و على رأسهم الشهيد شكري العساي
نائب دمشق ، ولقد أجبر النواب العرب في مجلس المبعوثان ؛ رئيس الوزراء على أن يعلن " أنه لن يسمح لليهود باستيطان فلسطين " ، كما أجبرو وزير الداخلية سنة 1911م " على
ان يعلن معارضته للأهداف الصهيونية.
4. القيام بنشاطات متعددة الأشكال لمواجهة النشاط الصهيوني ، وكان من ذلك :
ا- مهاجمة المستعمرات ، وسرقة المواشي ، و قطع الأغراس ، وإفلات المواشي على الحقول ، وتهديم الأسوار ، لأن السكان العرب " أعتبرو اليهود ألذ اعدائهم " . وكانت هذه العمليات عمليات انتقامية يقوم بها الذين طردوا من أراضيهم ، والفلاحون الساخطون الذين رأوا قيام قلاع تأسيسية للدولة الصهيونية بين ظهرانيهم ، و تزايدت النقمة الشعبية مع بداية الحرب بسبب تزايد النشاط الصهيوني ، والتنازلات التي قدمتها السلطات المركزية في الآستانة ، وقاد ذلك إلى تزايد قتل المستوطنين ، وانتشار عمليات القتل من الشمال إلى الأجزاء الاخرى.
ب- القيام بتظاهرات شعبية مختلفة ، وتوزيع نشرات معادية صهيونية . وكانت محاكمات الصحف التي أوقفت بسبب مهاجمة الصهيونيين تتحول إلى شبه مظاهرات وطنية.
ج- إنشاء أحزاب مثل الحزب الوطني العثماني سنة 1911م ، وتشكيل جمعيات و لجان ذات طبيعة خاصة ، كلجان منع بيع الاراضي ، ولجان الإشراف على الموانئ ، لضمان تطبيق القوانين الخاصة بالدخول.
وهكذا نرى أن حركة المقاومة كانت واسعة ، وانها تتعددت في أشكالها و شملت ميادين مختلفة ، من الصحافة إلى الغارات ، ومع ذلك فإنها كانت خلال هذه المرحلة كلها لا تزال مقاومة شبه عفوية ، وخاصة في ميدان المقاومة المسلحة . ولم تستطع هذه المقاومة من أن توقف مد الهجرة ، وان تظهر للحركة الصهيونية ، وللصهيوني المهاجر أن تكلفة بناء المستوطنات في فلسطين عالية ، وأن مواصلة الهجرة غير ممكنة.
يتبع.....