صادقت اللجنة الدولية الحكومية لصون التراث الثقافي غير المادي التابعة لمنظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة (اليونسكو UNESCO) خلال جلستها يوم 15 كانون أول 2021 على إدراج “التطريز الفلسطيني– الممارسات والمهارات والعادات المرتبطة به” على اللائحة التمثيلية للتراث الثقافي غير المادي للإنسانية. وبذلك، ترتفع حصيلة العناصر الفلسطينية التراثية غير المادية إلى (4) عناصر على لائحة اليونسكو، إلا أن ما يميّز هذا الملف، هو أنّه أول عنصر وطني يتم إدراجه بإسم دولة فلسطين، ما يثير تساؤلاً حول أهمية هذا الإنجاز وأبعاده القانونية والسياسية والثقافية.
لعلّ أحد أهم مفاتيح الإجابة على هذه التساؤلات، تكمن في أن هذا الإنجاز يضيف بُعداً جديداً للرواية الفلسطينية في مجابهة الرواية الإسرائيلية المزيفة أمام العالم، خاصةً في ظل تكثيف الاحتلال الاسرائيلي بكافة تمثلاته من سياساته الرامية لتزوير وطمس الهوية، وسرقة التراث والموروث الشعبي الفلسطيني.
اليونسكو وفلسطين
اتخذت منظمة اليونسكو جملة من القرارات والتوصيات التي أسهمت في إبراز القضية الفلسطينية منذ العام 1956 والتي يمكن تقسيمها إلى أربعة مداخل رئيسه، بحسب المجالات والاغراض التي تناولتها: قرارات تتعلق بمدينة القدس، وقرارات تتعلق بالمحافظة على الممتلكات الثقافية، قرارات خاصة تتعلق بالأماكن المقدسة والحفريات الإسرائيلية، وقرارات تختص بالاهتمام في النواحي التعليمية والثقافية في مدينة القدس. جاءت تلك القرارات رداً على الإجراءات والسياسات الإسرائيلية الهادفة إلى تدمير التراث الفلسطيني بشقيه المادي وغير المادي.
عملت الدبلوماسية الفلسطينية على مراكمة هذه القرارات والبناء عليها في مسيرة الاشتباك مع الاحتلال الإسرائيلي في ساحة التراث والرواية الفلسطينية المادية وغير المادية، حتى تم إدراج “الحكاية الفلسطينية” في القائمة التمثيلية للتراث الثقافي غير المادي للبشرية في العام 2008.
شكّل انضمام فلسطين إلى اليونسكو في العام 2011 نقلة نوعية في الميدان التربوي والثقافي والعلمي وفرصة ثمينة لدولة فلسطين لتعزيز الحضور الفلسطيني في الأجندات الدولية المختلفة، كون اليونسكو تعد الجهة الممثلة للجهد العالمي المشترك في الميدان التربوي والثقافي والعلمي.
وقد نشطت الدبلوماسية الفلسطينية باليونسكو، حيث حصدت قرارين ماديين بشأن القدس من خلال المجموعة العربية في العام 2016. على إثر ذلك، علقت إسرائيل تعاونها مع اليونسكو، وأعلن وزير التربية والتعليم الاسرائيلي السابق نفتالي بينيت عن تعليق كل نشاط مهني مع اليونسكو.
فيما يخص بالتراث غير المادي، حصدت فلسطين مجموعة قرارات من المنظمة بجهد عربي مشترك؛ ففي العام 2019، سجلت “نخلة التمر” على القائمة التمثيلية للتراث الثقافي غير المادي العالمي في العام 2019 لمجموعة الدول العربية ومن ضمنها فلسطين.
في القمة العالمية المنعقدة في باريس، سجلت فلسطين مع مجموعة الدول العربية “الخط العربي: المعرفة والمهارات والممارسات” على القائمة التمثيلية للتراث الثقافي غير المادي للبشرية، الذي تم تسجيله في 14 كانون الأول 2021. بالإضافة إلى قرار ” فن التطريز الفلسطيني”.
إنجاز جديد لفلسطين
نجحت فلسطين بجهد وطني منفرد في تسجيل ” التطريز الفلسطيني” على قائمة التراث غير المادي باليونسكو يوم 15 كانون الأول 2021، وقد أعتمد القرار الجديد (.Com16( حيثيات متعددة عند صدوره، حيث بني القرار على ممارسة المجتمع الفلسطيني للزي الذي يصنع في المناطق الفلسطينية الريفية قبيل الاحتلال، والشائعة في جميع الأراضي الفلسطينية والشتات.
وأشاد المستوى الرسمي الفلسطيني بإدراج اليونسكو “التطريز الفلسطيني”، على لائحة التراث غير المادي، حيث وصف رئيس الوزراء الفلسطيني محمد اشتية الإدراج بـأنه “خطوة مهمّة وفي وقتها“، ورحب وزير الخارجية والمغتربين رياض المالكي، بقرار اليونسكو، مثمناً جهود كافة المؤسسات الرسمية الفلسطينية، والخبراء، بما فيها بعثة دولة فلسطين لدى اليونسكو، ووزارة الثقافة، وكل الذين عملوا على إعداد وإدراج ملف التطريز على هذه القائمة.
فيما أوضح أمين عام اللجنة الوطنية الفلسطينية دوّاس دوّاس أن هذا النجاح يأتي ضمن الجهود المتواصلة التي بذلتها دولة فلسطين ممثلةً بوزارة الثقافة على المستويين الوطني والدولي للحفاظ على التراث الثقافي الفلسطيني بشكل عام، والتراث غير المادي بشكل خاص بهدف توثيقه وصونه استكمالاً للإنجازات الوطنية لإدراج عناصر التراث الثقافي الفلسطيني غير المادي.
عربياً، أثنى المجلس العربي للاتحاد العام للآثاريين العرب على قرار اليونسكو بادراج التطريز الفلسطيني على قائمة التراث غير المادي للإنسانية، مؤكداً على أن هذا القرار يعزز حماية الهوية العربية للشعب الفلسطيني ويظهر زيف الرواية الإسرائيلية. كما تجدر الإشارة إلى أن المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم “الأكسو” قد دعمت المساعي الفلسطينية من خلال توفير الخبراء الذين عملوا على هذا الملف حتى تم إنجازه. في ذات السياق، لم تصرح إسرائيل رسمياً على إقرار (اليونسكو)؛ فهي ترفض بشكل دائم ومستمر قرارات اليونسكو، مما يعني أن صمتها هو تصريح بالرفض والنكران للحق الفلسطيني وتراثه المادي والمعنوي، واستعداداً لمواجهته دولياً بكافة الأشكال والطرق.
أبعاد القرار… القانونية والسياسية والثقافية
تسري أحكام القانون الدولي بفاعلية أكبر عندما تكون الدول الثالثة مُرغمةً على الوفاء بالتزاماتها الخاصة والقانونية، بما في ذلك القوانين الوطنية التي تدرج التزاماتها بموجب القانون الدولي. ويمثّل موقف كندا إزاء مخطوطات البحر الميت المقاربة الأفضل لفهم البعد القانوني لإدراج التطريز الفلسطيني على لائحة اليونسكو.
حيث عرضت سلطة الآثار الإسرائيلية في العام 2010 مخطوطات البحر الميت، التي استولى عليها الاحتلال الإسرائيلي من متحف فلسطين للآثار بالقدس الشرقية إبان احتلالها في العام 1967، في متحف أونتاريو الملكي. ولو كانت دولة فلسطين عضواً في منظمة اليونسكو آنذاك، لما استطاعت كندا قبول عرض هذه المخطوطات، إذ أن التزامات الدول الثالثة كانت ستصب في صالح فلسطين في هذه الحالة.
وهذا يعني أنه ليس بإمكان أي دولة أن تدّعي بأن التطريز الفلسطيني من تراثها، ولن تستطيع دولة الاحتلال أن تروّج للثوب الفلسطيني في العالم على أنه جزء من الثقافة الإسرائيلية، في إمعان مستمر منها في سرقة الهوية الفلسطينية، والتي كان آخر شواهدها ترويج الاحتلال للثوب الفلسطيني على أنه تراث ثقافي إسرائيلي في مسابقة “ملكة جمال الكون” والتي نظّمها الاحتلال خلال شهر كانون أول 2021.
سيمكّن القرار الجديد الفلسطينيين من متابعة ومنع أي نشاط أو فعالية بالعالم تشارك فيه إسرائيل من خلال “الثوب الفلسطيني”؛ فالاحتلال يستخدم رواية مضللة بما يخص الثوب الفلسطيني، وقد نشرت وسائل إعلام إسرائيلية، عدة مرات في السنوات الأخيرة، صوراً لعارضات إسرائيليات، ومضيفات بشركة الطيران الإسرائيلية (العال)، يرتدين الزي الفلسطيني، على أنه يهودي.
كما ذكرت الورقة آنفاً، فإن هذا أول ملف يتم تسجيله بجهود فلسطينية خالصة، ما يدلّل على تطوّر المهنية والأداء الفلسطيني المتخصّص، والارتقاء بالكفاءة الوطنية الفلسطينية فيما يخص ممارسات صون التراث غير المادي، وعليه يمكن القول أن هذا الإنجاز سيعطي الفلسطينيين حافزاً للمضي قدماً في تسجيل عناصر أخرى مستقبلاً، على طريق حماية الرواية والهوية الفلسطينية، إضافة إلى تعزيز الخطاب السياسي وجهود الدبلوماسية الفلسطينية في المحافل والأروقة الأممية المختلفة.
وفي المقابل، فإن هذا التسجيل من شأنه أن يزيد من عزلة الاحتلال في الميدان الثقافي الأممي، التي تعاني أصلاً منذ انسحابها من اليونسكو، ومع سعي ادارة الرئيس الاميركي جو بايدن للعودة إلى اليونسكو، بعد أربع سنوات من إنسحاب الولايات المتحدة منها في فترة الرئيس الأميركي الأسبق دونالد ترامب (2017-2021)، فإن هذه الخطوة حال ما تمّت، من شأنها أن تزيد الضغوط على دولة الاحتلال وتزيد من عزلتها أكثر فأكثر.
خاتمة
يشكّل هذا القرار أساساً متيناً لحماية التراث الفلسطيني، ويعزّز الخطاب السياسي، والمساعي الدبلوماسية والقانونية في كافة المحافل والأروقة الأممية. وعلى الصعيد الوطني، فإن هذا التسجيل من شأنه أن ينعكس وجوباً على الممارسات الوطنية في مجال صون التراث، والإرتقاء بها، كونه أول ملف يُنجز بجهود فلسطينية خالصة.
إذ يعزز إدراج التطريز الفلسطيني على لائحتها التمثيلية للتراث غير المادي المخزون القانوني والسياسي الفلسطيني، ويوفّر إطاراً قانونياً لحماية الموروث الثقافي الفلسطيني من الممارسات الإسرائيلية المستمرة بهدف طمس وتزوير الهوية الفلسطينية من جهة، ومعززاً للجهود الدبلوماسية والسياسية التي تسعى لتثبيث الوجود الفلسطيني الهوياتي وتحصيل الحقوق الوطنية غير القابلة للتصرّف من جهةً أخرى.
ولعلّ ما يميّز ملف التطريز الفلسطيني عن غيره من العناصر التي سبق إدراجها، هو أنه العنصر الفلسطيني غير المادي الأكثر استهدافاً من قبل الاحتلال الإسرائيلي، ما يجعل إدراجه انتصاراً للرواية الفلسطينية، يفضح الكيان الإسرائيلي ويعرّي روايته الزائفة، ويساعد فلسطين على حصد مزيد من الإنجازات والقرارات لصالحها على مختلف الأصعدة القانونية والسياسية والثقافية مستقبلاً، ويؤسس القرار الجديد إلى:
- بيئة حاضنة لمشروع ثقافي فلسطيني جامع لكل من “الرواية، والزي الفلسطيني، والأكلات الشعبية،…”، بالإضافة إلى إمكانية تعزيزه واعتبار “الثوب الفلسطيني” زياً رسمياً للدولة الفلسطينية، تحديداً في وزارة التربية والتعليم.
- يشكل القرار الجديد مدخلاً لملاحقة السرقات الإسرائيلية للتراث الفلسطيني- البعد الثقافي للصراع- قانونياً وسياسياً.