كانت هذه المرحلة مرحلة الإضراب الكبير والثورة الكبرى؛ لأن مطالب الحركة الوطنية بوقف الهجرة لم تتحقق، ولأن الهجرة زادت، وزادت معها حركة الاستيلاء على الأراضي، وزادت التحديات الصهيونية سواء بتدفق الأسلحة، أو بإنشاء حرس للمستعمرات وحاميات صهيونية. وزاد النقمة الشعبية أن أداء القيادة الوطنية كان متخلفًا ومترددًا، وكان الانقسام والسعي وراء المكاسب يُشِلُّها.
أشكال المقاومة في المرحلة الثالثة
ظلت خطوط العمل الوطني في هذه المرحلة هي نفس خطوطه في المراحل السابقة، وإن كانت قد تطورت في كل الاتجاهات.
فعلى صعيد القيادة الوطنية ظل الاهتمام منصبًّا على الاتصالات السياسية العربية والدولية، وإرسال الوفود، وكانت الاتصالات ببريطانيا على رأس هذه الاتصالات، وكانت الاتصالات مع المندوب السامي البريطاني ومندوبي حكومة بريطانيا القادمين إلى فلسطين ومصر على رأس جدول الأعمال، كما كانت مهمة إرسال الوفود إلى بريطانيا على رأس الأولويات.
وعلى صعيد فلسطين دعت اللجنة التنفيذية يوم 27/10/1929م إلى اجتماع للجمعية العمومية للمؤتمر الفلسطيني في القدس، حضره أعضاء الجمعية العمومية وزعماء العشائر وعدد من المندوبين من شرق الأردن، ودعا الحاج أمين الحسيني – بعد معركة طرد عرب الزبيدات من أراضيهم – إلى مؤتمر في 25/1/1935م لعلماء الدين حضره حوالي 500 من القيادات والوجهاء السياسيين والاجتماعيين والدينيين. ولما كان الموضوع موضوع الأرض، فقد اتخذ المجتمعون قرارًا بالعمل على منع بيع الأراضي.
وكان الحاج أمين الحسيني – رئيس المجلس الإسلامي الأعلى وأحد أبرز قادة الحركة الوطنية – قد دعا سنة 1931م إلى مؤتمر إسلامي في القدس في 1/12/1931م، وقد دعت اللجنة التحضيرية للمؤتمر أبرز الشخصيات الإسلامية، فاستجاب معظمهم، وكان من المحاضرين عبد العزيز الثعالبي الذي أسهم في بلورة فكرة المؤتمر، ومحمد رشيد رضا، والمجتهد الأكبر كاشف الغطاء، والشاعر إقبال، وضياء الدين الطباطبائي. وقد واجه المؤتمر نوعين من الصعوبات: الأولى ناتجة عن خشية الإدارة البريطانية والحركة الصهيونية من نتائجه. والثانية ناتجة عن اختلاف قيادات فلسطين ووجهائها حول دور كل منها.
ولما كان الحاج أمين الحسيني هو المبادر، فإن منافسيه حاولوا إحباط المؤتمر، فلما فشلوا، دعوا إلى عقد مؤتمر آخر – ورغم ذلك – فإن المؤتمر قد نجح واتخذ قرارات هامة منها:
1 – إنشاء جامعة إسلامية كبرى في القدس تسمى “جامعة المسجد الأقصى”، وتأليف دائرة معارف إسلامية.
2 – الدفاع عن فلسطين لأهميتها بالنسبة للعالم الإسلامي، وشجب السياسة البريطانية – الصهيونية فيها، وإعلان قدسية البراق.
3 – تشكيل شركة إسلامية لإنقاذ أراضي فلسطين.
إلا أن كل هذه النشاطات لم تكن تحظى باهتمام الجماهير التي كانت ترى أن الخطر بحاجة إلى أساليب أخرى. وكانت اللجنة التنفيذية تحاول أن تشارك الجماهير همومها؛ ولذلك شاركت في بعض الفعاليات الشعبية مثل مظاهرة القدس يوم 13/9/1933م، حيث هاجمت الشرطة البريطانية المظاهرة فأصيب أحد القادة واعتُقِل آخرون، وكان موسى كاظم الحسيني على رأس المظاهرة رغم كِبَر سنه.
وفي 13/10/1933م قامت مظاهرة مماثلة في يافا، واشتبكت الشرطة مع المتظاهرين، فجُرِح موسى كاظم الحسيني، واعتقلت السلطات عددًا من القادة الآخرين. وحين توفي موسى كاظم الحسيني إِثْر إصابته، لم تستطع اللجنة التنفيذية أن تتفق على بديل في ظل التنافس الشخصي والعائلي والصراع السياسي؛ فَحَلَّت نفسها، وقاد هذا على الصعيد الشعبي إلى بروز مبادرات جديدة متعددة الأشكال وكان من ذلك:
1 – اتساع المشاركة الشعبية في أعمال التظاهر، واتجاه المظاهرات إلى طابع أكثر عنفًا، وصار التظاهر في هذه المرحلة عملاً متواترًا لا يتوقف رغم القمع البريطاني. وكان من هذه المظاهرات مظاهرات القدس يوم 13/9/1933م، ومظاهرات يافا يوم 13/10/1933م، واشتباكات يوم 14/10/1933م في معظم مدن فلسطين. وكان الشعب يعبر فيها عن نقمته دون انتظار لموقف قيادته ودون انتظار موافقة السلطان على السماح بمظاهرة سلمية.
2 – قيام مبادرات شعبية بعقد مؤتمرات وتكوين لجان شعبية للتعبير عن الموقف الشعبي، ومن ذلك:
أ – عقد المؤتمر الشعبي في نابلس في 31/7/1931، والذي دعت إليه لجنة تكونت لهذه الغاية، وقد تدخلت اللجنة التنفيذية لمنعه؛ لأنه عُقِد دون موافقتها، ووافق المجتمعون على الالتزام بقيادة اللجنة التنفيذية بعد الاتفاق على إعلان الإضراب احتجاجًا على سياسة الحكومة البريطانية التي وافقت على تسليح المهاجرين الصهيونيين.
ب – إقامة احتفالات شعبية بذكرى معركة حِطِّين.
جـ- الدعوة إلى اجتماع شعبي في بيت جبرين حضره حوالي 2000 شخص، ولم يحضره أحد من قادة الأحزاب، وقد دعا الاجتماع إلى: السعي للتفاهم وتوحيد الكلمة، السعي لوقف بيع الأراضي، السعي لتأسيس بنك زراعي عربي، العمل بالوسائل الممكنة لوقف الهجرة الصهيونية.
د – القيام بتحركات طلابية ونسائية وصحفية وعُمَّالِيَّة، فانعقد مؤتمر نسائي في 26/10/1929م حضرته حوالي 100 مندوبة، وفي 20/9/1931م عقد الصحفيون مؤتمرًا ناقشوا فيه مسألة إغلاق السلطة للصحف العربية، وأرسلوا برقية احتجاج إلى الحكومة احتجاجًا على تعطيل الصحف، وبرقية إلى اللجنة التنفيذية ينتقدون فيها سياساتها، وطالبوها بألا تَفَاوُضَ إلا على الاستقلال ضمن إطار الوحدة العربية.
هـ- الدعوة إلى الإضراب، وقد تكررت الإضرابات لتصل ذروتها في الإضراب الكبير الذي دام ستة أشهر.
3 – تشكيل اللجان القومية في 20/4/1935م لفرض الإضراب، وإيقاف التراخي في قيادة الحركة الوطنية. وقد انعقد مؤتمر عامٌّ للِّجان القومية في 8/5/1935م، واتخذ قراراته باستمرار الإضراب ومقاطعة سلطات الاحتلال.
4 – القيام بنشاطات اقتصادية، وكان منها إنشاء البنك العربي سنة 1934م، ثم قامت بعد ذلك بنوك ومؤسسات أخرى.
5 – تكوين خلايا مسلحة، وفي الوقت الذي بدأ فيه الشيخ عز الدين القسَّام يطور خلاياه مع بداية هذه المرحلة؛ ظهرت عصابة الكف الأخضر أواخر 1929م، وبدأ الحديث يتواتر عن تشكيل خلايا مسلحة وجمع التبرعات لها.
ولكن موضوع العمل المسلح لم يبرز إلى حَيِّز العمل إلا حين خرج القسَّام في 2/11/1935م إلى الريف ليبدأ الثورة، وقد اختار منطقة جنين، وكان يستهدف الاتصال بالفلاحين والعمل على إشراكهم في الثورة المسلحة، إلا أنه لم يُقَيَّض له أن يواصل المسيرة؛ لأن القوات البريطانية داهمت مكان اختبائه وطلبت منه الاستسلام، فقاتل حتى الاستشهاد هو ورفاقه، إلا مجموعة افترقت عنه قبل المعركة بقيادة فرحان السعدي، ومجموعاته الأخرى التي لم تخرج معه بقيادة خليل عيسى “أبو إبراهيم الكبير”.
وقد أشعل استشهاد القسَّام نار الحمية في فلسطين، ولكن قيادات الحركة الوطنية لم تشارك في مراسيم تشييعه – إلا نفرًا قليلاً – والتقت قبل مرور أسبوع على وفاته بالمندوب السامي، وقدمت له المطالب الوطنية المتعلقة بتشكيل حكومة وطنية ومنع انتقال الأراضي للصهيونيين ووقف الهجرة… إلخ.
واحْتُفِل في التاسع من كانون الأول/ ديسمبر بذكرى فتح القدس، فتحدث حمدي الحسيني – وهو من الزعماء الوطنيين المدافعين عن مصالح الشعب – فنَدَّد “بالطرق الفاشلة للعمل الوطني الفلسطيني، وذكر أنها كانت عاملاً قويًا في ترسيخ قدم الاستعمار” وبَيَّن “كيف أن الزعامة سَعَتْ لتقوية مراكزها فقط عند المستعمرين بالتظاهر بالوطنية، واستغلت مع الاستعمار الدماء الزكيَّة التي سُفِكَت في سِنِي 20 و21 و29 و33، حتى ضاعت هدرًا”.([xxix])
وحين جاء رد المندوب السامي البريطاني حمل معه فكرة قيام مجلس تشريعي، فاختلف قادة الحركة الوطنية عليها، ورغم الخلاف على المجلس التشريعي فقد وافقت الأحزاب على إرسال وفد إلى لندن. ولكن الجماهير كانت تزداد غليانًا، ووضْع القيادات يبعث على الأسى؛ ولذلك دعا رشيد الحاج إبراهيم يوم 11/4/1936م – وهو من الزعماء الوطنيين المخلصين – إلى اجتماع عام للقيادات الوطنية يضم أعضاء اللجنة التنفيذية للمؤتمر السابع، وأعضاء الوفود إلى البلاد العربية والأجنبية، ورؤساء الأحزاب، وأصحاب الصحف لدراسة ما تطلبه مصلحة البلاد.
اشتعال الثورة
لم تنتظر الجماهير، فأصدرت لجنة شعبية في يافا وأخرى في نابلس يوم 20/4/1936م دعوة للإضراب، وتجاوبت القدس مؤيدة دعوة نابلس، وسرت الدعوة في فلسطين، فقدّمت اللجنة القومية في حيفا مذكرة إلى حاكم اللواء تعلن فيه الإضراب ابتداء من 22/4/1936م، وطالبت بما يلي:
1 – وقف الهجرة حالاً.
2 – سن تشريع يمنع تسرب الأراضي.
3 – تشكيل حكومة وطنية.
وأجبرت الموجة الوطنية رؤساء الأحزاب على أن يجتمعوا ويتفقوا على تأجيل إرسال الوفد إلى لندن، ورجاء الأمة أن تستمر في إضرابها.
وفي هذا الوقت برزت دعوة إلى تشكيل لجنة عربية عليا برئاسة الحاج أمين الحسيني، وأُعْلِن عن أول اجتماع لها يوم 27/4/1936م، وكان ميثاقها استمرار الإضراب إلى أن تُوقِفَ الحكومة البريطانية الهجرة وبيع الأراضي وتقوم حكومة وطنية نيابية، على أن يكون وقف الهجرة هو البادرة.
وعُقِد يوم 8/5/1936م مؤتمر اللجان القومية التي دعت إلى الإضراب للتأكيد على ضرورة استمراره، والتعبير عن إرادة الشعب. وما إن عَمّ الإضراب فلسطين، حتى انفجرت الثورة المسلحة وعادت جماعة القسَّام إلى الميدان. وكان الهدف من الإضراب شل الحياة السياسية والاقتصادية. أما الثورة المسلحة فقد استهدفت إثارة الذعر في المعسكرات البريطانية والتجمعات الصهيونية، وتخريب ما أمكن تخريبه من المرافق والمصالح البريطانية والصهيونية.
ولما فعل الإضراب فعله، جاء نوري السعيدي – وزير خارجية العراق – إلى فلسطين في 26/8/1936م، واقترح أن تتخذ اللجنة العربية العُليا إجراءات لوقف الإضراب، على أن تتوسط الحكومة العراقية لدى الحكومة البريطانية لتحقيق جميع مطالب عرب فلسطين.
وافقت اللجنة العربية العليا على الوساطة ولكن الشعب لم يوافق، واستمر الإضراب، وظل الأمر كذلك إلى أن وجه الملوك والرؤساء العرب بيانًا إلى عرب فلسطين يطالبونهم فيه بوقف الإضراب؛ لأن حكومة بريطانيا وعدت بالنظر في مطالبهم. وقبلت اللجنة العربية العليا النداء فدعت إلى وقف الإضراب صباح الاثنين 16 رجب 1355 الموافق لـ 12 تشرين الأول/ديسمبر 1936م.
وقد استغلت السلطات البريطانية وقف الإضراب لتُخْرِج القوات العربية التي دخلت للإسهام في الثورة المسلحة بقيادة فوزي القاوقجي ومحمد الأشمر، وقد هَبَّت القرى للدفاع عنهم، ولكنهم أُخْرِجُوا إلى شرق الأردن يوم 14/10/1936م وعادوا من حيث جاءوا.
ورغم ذلك فقد استمرت الثورة المسلحة، واستطاعت في ربيع 1938م أن تقود كل فلسطين، وأن تنشئ مراكز وقيادات، وأن تفرض سلطة الثورة على الريف وقطاعات واسعة من المدن. واعتمد مقاتلو الثورة أساليب حرب العصابات الحديثة؛ فكانوا يَتَجَمَّعون في زُمَر صغيرة، ويبادرون بالهجوم ثم ينسحبون، وينظمون الكمائن التي تَشُلّ تحركات العدو. وقد أثبتوا جدارة حين اضْطُرُّوا لخوض معارك كبيرة.. ومن معاركهم المشهورة في المرحلة الأولى من الثورة: معركة جبل حريش 24/8/1936، ومعركة بلعا 3/9/36، ومعركة أم الفحم 12/9/36، ومعركة جبع 24/9/36، ومعركة بيت أمرين 29/10/36، ومعركة كفر عبوش 7/10/36.
ثم اتسعت الاشتباكات في الفترة (1937 – 1939) حتى إن المصادر البريطانية ذكرت أن قوات الثورة قامت بـ 5708 عمليات سنة 1938م، 3315 عملية سنة 1939م. وكانت العمليات في هذه المرحلة موجهة أساسًا ضد قوات الاحتلال البريطاني عكس ما كانت عليه في الماضي.
يتبع ....